[ هذا المقال جزء من ”أصوات من أجل غزة" وهو ملف خاص تنشره جدلية على مدار شهر كامل. للإطلاع على بقية المقالات اضغط/ي هنا]
أثقل التاريخ كاهل غزّة بالاحتلال والحروب، والحصار يجثم على صدور أهلها. وإذا كانت آثار الخراب الذي تخلّفه هذه العوامل مجتمعةً على البنية التحتية هي الأكثر وضوحاً للعيان، فإن الضرر الذي يلحق بالبنى النفسية ليس واضحاً، مرئياً أو موثقاً بالعناية ذاتها. هنا حوار أجرته ابتسام عازم مع فضل عاشور، وهو أستاذ الطب النفسي والعلوم السلوكية في كلية الطب في "جامعة القدس" - فرع غزّة، نستقصي فيه أوضاع الطب النفسي في غزة والتحديات التي تواجهها.
- ابتسام عازم: ما هي تحديّات العمل في ظروف الحصار المفروض على قطاع غزّة؟
- فضل عاشور: مفهوم الحصار القائم في غزة لا يتجسد كما جرت عادة الحصار بغياب السلع أو الأدوية، فهذه متوفرة إلى حدّ ما. لكن الحصار في ظروف غزّة هو توقف العملية التنموية بالكامل وانسداد الآفاق أمام الجميع وخصوصاً الشباب، ممن لا تولّد لهم العملية القائمة أي فرص عمل، أو حتى أيّ فرص للانتقال خارج غزة. ما يراكم كل عام عدداً كبيراً من الشباب يدخلون سوق العمل وينضمون إلى طابور البطالة واليأس، ما يجعلهم غير قادرين على الانفصال عن أهلهم أو الزواج، وقد رفع سن الزواج بشكل لافت ومفاجئ لكلا الجنسين في هذه البيئة الكئيبة التي تنتج القلق والحرمان.
وفي مرحلة ما، ارتفعت مستويات العنف الداخلي. ورافقت ذلك موجة مهولة من الإدمان على العقاقير الطبية وغير الطبية ستصعب السيطرة عليها ربما لعقدٍ كامل، على افتراض تغيّر الظروف الحالية القائمة في غزة. إن وضع غزة، والمتغيرات الاجتماعية والنفسية التي تلت موجة العنف الداخلي، وما تلاها لاحقاً من أحقاد وحصار، بالإضافة إلى ردّ الفعل عليها لجهة تنامي نزعة قلقة وانطوائية وموجة إدمان وغيرها، هي عوامل أنتجت تلفاً في غزة جعلها كما لو أنها تعرضت لقصف بقنبلة نووية صغيرة.
- ما هي التحديات التي تواجهكم عامةً؟ وبالذات تلك التي تفرضها البيئة الاجتماعية التي تعملون بها؟
- تحديّات البيئة القائمة تشلّ قدرتنا على الأداء أحياناً. فالانقسام الفلسطيني ولّد فوضى إدارية وتنظيمية فظيعة في المؤسسات الصحية وغير الصحية. فمثلاً، المؤسسات الصحية يتم تمويلها من السلطة الفلسطينية، لكن سلطة "حماس" في غزّة تضع يدها عليها وتحاول أن تقوم بإدارتها من دون أن تكون هي الجهة الممولة لها أو المتحكمة في مواردها. وقد توقف أيضاً عدد كبير من الكوادر الطبية العليا عن العمل أو وجدوا أنفسهم غير قادرين أصلاً على العمل، بسبب الفوضى الإدارية وعدم القبول والانقسام والهجرة التدريجية للكوادر العليا وعدم تدفق أخصائيين جدد بسبب الوضع غير المشجع لهم للمجيء إلى غزة. هذا عدا أننا كأطباء نعيش حالة القلق والترقب كبقية المواطنين.
- ما هي طبيعة المشاكل النفسية التي يعاني منها الأطفال الذين يتوجهون إليكم بصورةٍ خاصة؟
- بسبب خصوصيات الوضع الفلسطيني وتكرار تعرّض الأطفال للصدمات والعنف، تشير ملاحظاتنا العيادية ودراسات محلية إلى ارتفاع شديد في حالات القلق الحاد، وقلق ما بعد الصدمة، وهو ما تعرض له آباؤهم وأجدادهم قبلهم منذ عقودٍ طويلة، بدءاً من النكبة والتطهير العرقي العنيف، مروراً بكل الحروب وعنف الاحتلال من اعتقالٍ وتعذيب.
عموماً، أطفال غزة هم أطفال هذا العالم. هم أطفالٌ لديهم كل الجمال والبراءة، كحال الأطفال في كل مكان. لديهم خصوصية الوضع المذكور أعلاه، وتضاف إليها حالات كحالات بقية أطفال العالم، كمرض التوحّد وقلق الانفصال واضطراب الإفراط في الحركة مع ضعف الانتباه، وبقية الحالات الخاصة بالأطفال أينما كانوا.
- هل هناك حالة/حالات معينة يمكن أن تكون بمثابة استعارة للوضع العام الذي يمرّ به الأطفال أو الكبار؟
- القصص كثيرة، وهي بعدد الناس الذين أعاينهم يومياً. فكل فرد له قصته وحكايته الخاصة. بعد عقود من العمل كطبيب نفسي، يبدو أنني فقدت حساسيتي للقصص الإنسانية التي تواجهني يومياً وتثير في العادة فضول الناس العاديين. اليوم مثلاً، عاينت مهندساً. وهو خريج جديد أحضرتْه جدته التي يقيم معها كون أفراد أسرته يعملون ويعيشون خارج غزّة. كان لديه ما يُعرف بنوبات الهلع، وقد أخذته جدته إلى عدة أفراد ممن يعملون بالعلاج الشعبي، كالعلاج بالقرآن والعلاج بوسائل تشبه السحر والشعوذة، وواظبت لعدة أشهر إلى أن قررتْ أخيراً إحضاره للعلاج عندي، بعد اتصالات طويلة من ابنها (والد الشاب) وإصراره على ذلك، علماً أن الأب الذي يعيش خارج غزة، لا يستطيع القدوم إليها.
وقد عاينت اليوم مرضى شباباً ممن يدمنون على تعاطي عقار الترامدول الذي أصبح الإدمان عليه وباء حقيقياً في أوساط الناس في غزّة.
أحد الأطفال يبلغ من العمر 12 سنة، ويسكن في منطقة تعرضت لأقصى درجة من عنف القصف الجويّ في الاعتداء الاسرائيلي الأخير على غزة قبل عامين. أهله، بعد الحرب، لاحظوا التغيرات في سلوكه، إذ بدأ يصرّ على النوم بين والديه بعدما كان قد نجح سابقاً في الانفصال عنهما. وعاد إليه التبوّل الليلي بعدما كان يتحكم به في العمر المناسب كبقية الأطفال. وبدأ يخاف الليل والظلام، بل ولا يذهب للمرحاض إلا برفقة أمه أو أبيه. أهله سكتوا طويلاً على الموضوع رغم حزنهم، واعتقدوا أنه لربما يزول من تلقاء نفسه، ورافقهم شعور بالعجز وقلة الحيلة. فجأة، انفجر الموقف بطريقة اضطرتهم لإحضاره إليّ عندما حاول أن يشنق نفسه ولم ينجح. لاحظتُ مدى حزنه وتأخر نموه الجسماني، وقد كانت هذه حالة كلاسيكية لقلق ما بعد الصدمة لدى الأطفال.
- كيف تأثّر عملكم بالتقلبات السياسية التي شهدها القطاع (إثر الصراع الفلسطيني- فلسطيني)؟
- هذا الصراع أدّى إلى ضعف ورخاوة المؤسسات القائمة التي باتت تتم هيكلتها على أساس سياسي، وإلى انسحاب عدد كبير من كبار الأخصائيين إما بالامتناع عن العمل أو القيام بترك البلد مع عدم تدفق كوادر جديدة، إذ لم يعد الوضع القائم يشجعهم على قصد غزّة، ناهيك عن الفوضى الإدارية. فالسلطة الفلسطينية في رام الله ما زالت تموّل قطاع الصحة في غزة، وتؤمن الأدوية واللوازم والمصاريف الجارية كرواتب معظم العاملين في القطاع الصحّي، لكنها لا تشرف على موظفيها إدارياً في الحياة اليومية. ما خلق حالة إدارية أشبه باللامعقول، والانقسام ولّد أحقاداً داخلية شديدة وخوف الناس من بعضهم البعض مع نزعة قلق جماعية وانطواء اجتماعي.
للأسف، الآن لا توجد أية مشاريع تنموية لأي شيء في غزة، حتى المشاريع الممولة من الخارج هي مشاريع إغاثة سريعة وليست بناء مؤسسات عمل ذات ديمومة مستمرة... و جزء كبير مما أنجز سابقاً قد انهار.
- أخيراً، هل يمكن أن تحدثنا عن خدمات ومؤسسات الطب النفسي في غزة وآليات عملها؟
- مؤسسات الطب النفسي حديثة النشأة في قطاع غزة، فالطب النفسي طبٌّ من الدرجة الثالثة، بمعنى أنه جزء من الطب المتقدم، أو على الأقل هو جزء من الطب الذي يُقَدَّم للمجتمعات "المتقدمة". وعموماً، هناك سوء فهم لدى المواطنين العرب ممن يتابعون وضع غزة، وربما لديهم تصور غير واقعي عنها. فغزة لديها مصادر ثروة بشرية مذهلة، وهي مستودع الأدمغة الفلسطينية وثروة إنسانية متقدمة، ولديها مستوى تعليمي مرتفع جداً وجامعات. ومؤسسة الطب النفسي فيها مكوّنة من ثلاثة عناصر: القطاع الحكومي وقطاع المنظمات غير الحكومية والقطاع الخاص.
القطاع الحكومي يقف على رأسه مستشفى للطب النفسي، وتتفرع عنه شبكة من العيادات النفسية المجتمعية تغطي كامل مناطق قطاع غزة حيث تتم معاينة المرضى ومتابعتهم، ويصرف الدواء لهم مجاناً من قبل السلطة الفلسطينية. فهي قررت منذ العام 1995 صرف الأدوية النفسية للمرضى النفسيين مجاناً لتشجيعهم على العلاج بسبب الانتشار الواسع للاضطرابات النفسية لدينا، ما تطلّب تدخلاً من السلطة لدعم هذا المجال وتمويله. إلى القطاع الحكومي، لدينا قطاع غير حكومي، والمنظمة غير الحكومية الأهم هي "برنامج غزة للصحة النفسية" (ويتلقى تمويله من قبل جهات مانحة أجنبية). إنّ المرحوم الدكتور إياد السراج هو من قام بتأسيسه في قطاع غزة في بداية التسعينيات. والدكتور إياد السراج هو أيضاً مؤسس القطاع الحكومي في الطب النفسي، فهو أول أخصائي للطب النفسي باشر عمله في غزة في مطلع السبعينيات. وما يميزه أنه نظر إلى معضلة الاضطرابات النفسية في غزة ضمن الإطار الاجتماعي والسياسي الذي يعيش فيه الناس. ما دفعه نحو اهتمامات اجتماعية وسياسية، والعمل في مسائل حقوق الإنسان، فقد فهم أن جزءاً من الاضطرابات النفسية لدينا لا يمكن فهمه، أو التأثير عليه، إلا بتغييرات في الواقع الاجتماعي والسياسي.
أما المستوى الأخير في الخدمات المقدمة فيشكّله القطاع الخاص، الذي يمكن اختصاره بعدد محدود من عيادات الأطباء العاملين في الطب النفسي. المشكلة لدينا في الطب النفسي في غزّة هي قلة العنصر البشري العالي التخصّص بين الأطباء، إذ لدينا فقط طبيبان ممن لديهم اختصاص مكتمل، وعدد قليل آخر ممن يقومون بدورات تدريبية هنا وهناك، من دون أن تسمح لهم بالحصول على درجة أخصائي.
[ينشر بالتعاون بين ”جدلية“ و”ملحق فلسطين“ السفير]